الإيمان -كما أجمع عليه أهل السنة والجماعة وروته كتب العقيدة مسنداً إلى أكثر علماء الأمة- هو قول وعمل، يزيد وينقص.
وهذه العبارة جامعة مانعة لا يحتاج معها إلى غيرها، ولكن نحتاج إلى شرحها وتفسيرها، وممن نقل الإجماع على هذه الكلمة الإمام الشافعي في الأم، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، والإمام أحمد في كتاب الإيمان، وهو غير موجود الآن مستقلاً؛ لكنه ضمن مسند الخلال.
وممن نقل الإجماع أيضاً الإمام البخاري، وله كلمة عظيمة جامعة تغني عن كثير من الأقوال في هذا المضمار؛ قال: "رويت عن أكثر من ألف شيخ ولم أرو إلا عمن يقول: الإيمان قول وعمل" وفي بعض الروايات يقول: "ولم أرو عمن يقول: الإيمان قول"، فالإمام البخاري رحمه الله كان من أشد الناس اهتماماً في هذه المسألة كعادة أهل السنة في عصره، فلا غرابة في موقفه أو موقف الإمام أحمد رضي الله عنهما وأمثالهم في هذه الشدة على المرجئة ؛ لأنهم نقلوا ذلك عن الأئمة الأجلاء عن: ابن أبي شيبة، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وعبد الله بن المبارك، فهؤلاء وأمثالهم من أئمة الإسلام وأعلام الهدى، كان موقفهم من أشد المواقف في مسألة الإرجاء، فالإمام البخاري رحمه الله أخذ ذلك عنهم، فكان من حرصه على الرواية ألاَّ يأخذ ذلك إلاَّ عمن يقول: (الإيمان قول وعمل).
فلم يكن أحد من شيوخه يتهم بالإرجاء -وإن كان في أثناء السند قد يوجد من هو متهم بالإرجاء- ولم يكن يجلس في حلقة أحد من المرجئة؛ فلا يعني قول الإمام البخاري رحمه الله أنه لم يأخذ العلم إلا عمن يقول: (الإيمان قول وعمل)؛ أنه لا يوجد في أسانيد الإمام البخاري أو مسلم -وهو تلميذه في هذا الشأن- من اتهم بالإرجاء؛ بل إن أكثر التهم الموجهة إلى الرواة هي الإرجاء.
وبعض أئمة المرجئة الكبار لهم روايات في الصحيحين وغيرهما، خاصة أئمة الكوفة، وهناك كلمة مشهورة للإمام أحمد رحمه الله، والواقع يصدقها، قال: (إنه لو تركت الرواية عن المرجئة لتركت الرواية عن عامة أهل الكوفة، ولو تركت الرواية عن القدرية لتركت الرواية عن عامة أهل البصرة )؛ لأن القول بالقدر انتشر في البصرة والقول بالإرجاء انتشر في الكوفة، فعمت البلوى حتى سرت إلى علماء وأئمة ثقات أجلاء كبار عباد وثقات وصادقين في نقلهم؛ فلذلك تؤخذ عنهم الرواية وإن كانت الشبهة قد انقدحت فيهم، لكن الإمام البخاري نفسه لم يجلس إلى أحد من المرجئة .
فالمقصود أن الإجماع قد انعقد على أن الإيمان قول وعمل، وقد ذكر الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله تعالى من علماء الكوفة وغيرهم جموعاً غفيرة جداً؛ فقد ذكر ما يقارب مائتي رجل ممن يقولون: الإيمان قول وعمل.. كما نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الإيمان.
ويعقب شيخ الإسلام رحمه الله على ذلك في كتاب الإيمان فيقول: (وأكثر من ذكر أهل الكوفة وأهل العراق ؛ لأن الإرجاء ظهر عندهم)، أما أهل المدينة على سبيل المثال، فلم يظهر فيهم هذا المذهب، بل حورب أشد المحاربة، وأما في الشام فيقول الإمام الأوزاعي رحمه الله كما نقله عنه اللالكائي بسنده: (وقد كان أهل الشام في راحة وفي معزل عن هذه البدعة حتى قدم بها إلينا بعض أهل العراق )، يعني: أنها نقلت من العراق لكنها كانت أخف، وفي مصر وغرب العالم الإسلامي كانت أيضاً قليلة.
وأكثر ما انتشر الإرجاء في البيئة التي ظهرت فيها الخوارج، وفي هذا عبرة...
والخلاصة أن إجماع العلماء المعتد بهم والموثوق بعلمهم قد انعقد على أن الإيمان قول وعمل، وممن نقل ذلك الإجماع أيضاً ابن عبد البر رحمه الله في التمهيد والحافظ ابن كثير عند آيات الإيمان من أول سورة البقرة، وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والحافظ ابن رجب رحمه الله في كتابه جامع العلوم والحكم عند شرح حديث جبريل عليه السلام.
إذاً: لا شك أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص، والتعبير بأن الإيمان قول وعمل أفضل من التعبير بأن الإيمان قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان؛ لأن أفضل الكلام بعد كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم هو كلام السلف، والسلف قالوا: الإيمان قول وعمل.
ما معنى قولنا: الإيمان قول وعمل؟ وما الذي يندرج تحت هذه الكلمة؟
  1. معنى قولنا: الإيمان قول وعمل

  2. الإقرار باللسان وحده لا يكفي للإيمان